فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية} فيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس.
والثاني: الأُبُلَّة، قاله ابن سيرين.
والثالث: باحروان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {استطعما أهلها} أي: سألاهم الضيافة {فأبَوْا أن يضيِّفوهما} روى المفضل عن عاصم: {يُضيفوهما} بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية.
وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إِلا أنه فتح الياء الأولى.
وقرأ الباقون: {يضيِّفوهما} بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها.
قال أبو عبيدة: ومعنى يضيِّفوهما: ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضِفت أنا، وأضافني الذي يُنزلني.
وقال الزجاج: يقال: ضِفتُ الرجل: إِذا نزلتَ عليه، وأضفته: إِذا أنزلته وَقَرَيْتَهُ.
وقال ابن قتيبة: يقال: ضيفت الرجل: إِذا أنزلتَه منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضِفته: نزلت عليه.
وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانوا أهل قرية لئامًا».
قوله تعالى: {فوجدا فيها جدارًا} أي: حائطًا.
قال ابن فارس: وجمعه جُدُر، والجَدْر: أصل الحائط.
ومنه حديث الزبير: «ثم دع الماء يرجع إِلى الجَدْر»، والجيدر: القصير.
قوله تعالى: {يريد أن ينقضَّ} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء: {ينقاض} بألف ممدودة، وضاد معجمة؛ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: {ينقاص} بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكلُّه بلا تشديد.
قال الزجاج: فمعنى: ينقضَّ: يسقط بسرعة، وينقاص، غير معجمة: ينشق طولًا، يقال: انقاصت سِنُّه: إِذا انشقَّت.
قال ابن مقسم: انقاصت سِنُّه، وانقاضت بالصاد، والضاد على معنى واحد.
فإن قيل: كيف نسبت الإِرادة إِلى ما لا يعقل؟
فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيهًا بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإِرادة إِذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إِلى مالا يعقل تجوُّزًا، قال الله عز وجل: {ولما سكت عن موسى الغضبُ} [الأعراف: 154]، والغضب لا يسكت، وإِنما يسكت صاحبه، وقال: {فإذا عزم الأمر} [محمد: 21]، وأنشدوا من ذلك:
إِنَّ دهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ ** لَزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحْسانِ

وقال آخر:
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ** وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عقيلِ

وقال آخر:
ضحكوا والدهرُ عنهم سَاكتٌ ** ثم أبكاهم دمًا لمَّا نَطَقْ

وقال آخر:
يشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ** صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلانا مُبْتَلَى

وهذا كثير في أشعارهم.
قوله تعالى: {فأقامه} أي: سوّاه، لأنه وجده مائلًا.
وفي كيفية ما فعل قولان.
أحدهما: أنه دفعه بيده فقام.
والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: {لو شئتَ لَتَخِذْتَ عليه أجرًا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لَتَخِذْتَ} بكسرالخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {لاتَّخَذْتَ} وكلُّهم أدغموا، إِلا حفصًا عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير.
قال الزجاج: يقال: تَخِذ يَتْخَذُ في معنى: اتَّخَذَ يتَّخِذُ.
وإنما قال له هذا، لأنهم لم يضيِّفوهما.
قوله تعالى: {قال} يعني: الخضر {هذا} يعني: الإِنكار عَلَيَّ {فراق بيني وبينك} أي: هو المفرِّق بيننا.
قال الزجاج: المعنى: هذا فراقُ بينِنا، أي: فراق اتصالنا، وكرر بين توكيدًا، ومثله في الكلام: أخزى اللهُ الكاذب مني ومنك.
وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: {هذا فِراقٌ} بالتنوين {بيني وبينَك} بنصب النون.
قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام، لربِّه، وكان قوله في الجدار، لنفسه، لطلب شيء من الدنيا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله: {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي}.
شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحقّ الشروط أن يُوفَّى به ما التزمه الأنبياء، والتُزِم للأنبياء.
وقوله: {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا} يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقًا، وقيامِ الحجة من المرة الثانية بالقطع؛ قاله ابن العربي.
ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضًا أصلًا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوّم ثلاثة؛ فتأمله.
قوله تعالى: {فَلاَ تُصَاحِبْنِي} كذا قرأ الجمهور؛ أي تتابعني.
وقرأ الأعرج {تَصْحَبَنِّي} بفتح التاء والباء وتشديد النون.
وقرئ: {تَصْحَبْنِي} أي تتبعني.
وقرأ يعقوب {تُصْحِبْنِي} بضم التاء وكسر الحاء؛ ورواها سهل عن أبي عمرو؛ قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك.
{قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا} أي بلغت مبلغًا تُعذر به في ترك مصاحبتي.
وقرأ الجمهور: {مِنْ لَدُنِّي} بضم الدال، إلا أن نافعًا وعاصمًا خفّفا النون، فهي لدن اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكُسر ما قبل الياء كما كُسر في هذه.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {لَدْنِي} بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون.
وروي عن عاصم {لُدْنِي} بضم اللام وسكون الدال؛ قال ابن مجاهد: وهي غلط؛ قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة.
وقرأ الجمهور {عُذْرًا}.
وقرأ عيسى {عُذُرًا} بضم الذال.
وحكى الداني أن أبيًّا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عُذْرِي» بكسر الراء وياء بعدها.
مسألة:
أسند الطبريّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يومًا: «رحمة الله علينا وعلى موسى لو صَبَر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال: {فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا}» والذي في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عَجَّل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذَمَامة ولو صَبَر لرأى العجب» قال: وكان إذا ذَكَر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا وعلى أخي كذا.
وفي البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله موسى لودِدْنَا أنه صَبَر حتى يقص علينا من أمرهما» الذَّمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المَذَمَّة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة: يقال أخذتني منك مَذَمَّة ومَذِمَّة وذَمَامة.
وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا} فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} في صحيح مسلم عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لئام»؛ فطافا في المجلس فـ: {استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} يقول: مائل قال: {فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيّفونا، ولم يطعمونا {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى لوَدِدْتُ أنه كان صَبَر حتى يقصَّ علينا من أخبارهما».
الثانية: واختلف العلماء في القرية؛ فقيل: هي أبُلَّة؛ قاله قتادة، وكذلك قال محمد بن سيرين، وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء، وقيل؛ أَنْطاكية، وقيل: بجزيرة الأندلس؛ روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة: هي بَاجَرْوان وهي بناحية أذَربيجان.
وحكى السهيليّ وقال: إنها برقة.
الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، وإليها تنسب النصارى؛ وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى، والله أعلم بحقيقة ذلك.
الثالثة: كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر، ولم يسأل قوتًا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوت؛ وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة؛ منها أن موسى كان في حديث مَدْين منفردًا وفي قصة الخضر تبعًا لغيره.
قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أوّل الآية لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا} فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع؛ والله أعلم.
وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وُكِل إلى تكلّف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.
الرابعة: في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يردّ جوعه خلافًا لجهال المتصوفة.
والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة، بدليل قوله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} فاستحق أهل القرية لذلك أن يُذمّوا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال قتادة في هذه الآية: شر القُرَى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقّه.
ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء.
وقد تقدّم القول في الضيافة في هود والحمد لله.
ويعفو الله عن الحريريّ حيث استخف في هذه الآية وتَمجَّن، وأتى بخطل من القول وزلّ؛ فاستدل بها على الكُدْية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه؛ فقال:
وإِنْ رُدِدْتَ فما في الردِّ مَنقصةٌ ** عليكَ قد رُدَّ موسى قبلُ والْخَضِرُ

قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شِنْشِنَة أدبية، وهفوة سخافية؛ ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبًا بشيء فإياك أن تلعب بدينك.
الخامسة: قوله تعالى: {جِدَارًا} الجِدار والجَدْر بمعنًى؛ وفي الخبر: «حتى يبلغ الماء الجدر».
ومكان جَدِيرٌ بُني حواليه جدار، وأصله الرفع.
وأجدرت الشجرةُ طلعت؛ ومنه الجدريّ.
السادسة: قوله تعالى: {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: «مائل» فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور.
وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحيّ الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان ممتثلًا لذلك الفعل، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير؛ فمن ذلك قول الأعشى:
أَتْنتَهون ولاَ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ** كالطَّعْنِ يَذهبُ فيه الزَّيتُ والفُتُلُ

فأضاف النهى إلى الطعن.
ومن ذلك قول الآخر:
يُرِيدُ الرمحُ صدر أَبِي بَرَاءٍ ** ويرغبُ عن دماء بني عقيل

وقال آخر:
إنَّ دهرًا يلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ ** لزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحسان

وقال آخر:
في مهمه فُلِقت به هاماتُها ** فَلْقَ الفؤوس إذا أردن نُصُولًا

أي ثبوتًا في الأرض؛ من قولهم؛ نَصَل السيفُ إذا ثبَتَ في الرميّة؛ فشبَّه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض، فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج.
وقال حسان بن ثابت:
لَوْ أن اللُّوْمَ يُنسبُ كان عَبْدًا ** قبِيحَ الوجهِ أَعْوَرَ من ثَقِيفِ

وقال عَنْتَرة:
فازْوَرَّ من وَقْع القَنَا بِلَبَانهِ ** وشَكَا إليّ بعَبْرةٍ وتَحَمْحُمِ

وقد فَسَّر هذا المعنى بقوله:
لو كان يَدْرِي ما الْمُحَاوَرةُ اشتكى ** وهذا في هذا المعنى كثير جدًا.

ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان.